
كنت جالسا معها فى ساحة الكلية وأمامنا هديتى لها فى عيد ميلادها .. عيناها مغرورقتان بدموع لؤلؤية شفيفة ونظراتها تفيض حنانا ورقة .. أعرف أنها لا تحبنى ولن تحبنى وأنا أيضا لا يمكننى أن أحبها إلا ذلك الحب الإنسانى الرائق الذى حفظ مودتنا دوما وجعل علاقتى بها بعيدة عن الغيرة والاضطراب العاطفى .. فقط قرب غريب ومهيب لكنه لا يؤهل لشيء .. كنا نحفظ معا هذه المقطوعة من مجموعة قصصية قرأتها أنا ونتمثل علاقتنا فيها :
( فى ليل الشتاء البارد الكآبة ، يتذكرها فينتشر الدفء فى أوصاله .. يحلق فى سماء عينيها فتتلاشى همومه .. يجدف فى بحار هواها فيرسو إلى بر أمان .. يتربع فوق ساحة صدرها الرحب فيرتد طفلا ، بل جنينا يسكن فى حشاها .. ينبت من جديد .. ينهل عصارة الحياة فتهبه خلودا وعندئذ تفرخ أحزانه فرحا وتخضر أوراق فؤاده فيصيح ملء فمه : أنت .. أنت ملاذى ) ..
كانت تلك الباليرينا الفاتنة ترقص أمامنا وقلوبنا تضج من البهجة وقد سرح كل منا بعيدا ورأى بعينى خياله نفس المشهد .. فاتن حمامة تمسك ذات الهدية من حبيبها المسافر وتحدق فيها بوله آسر وفجأة تنكسر الباليرينا فيسقط قلبها فزعا .. لكن الباليرينا أمامنا لم تسقط لنخاف من الفراق فقد كنا نعرف أننا لا يمكننا الالتقاء .. فقد كانت حبيبة أعز أصدقائى وتركها هو وتدخلت بينهما للإصلاح كثيرا مما جعلنى أقترب إنسانيا كثيرا منها دون خوف فقد ظل ذلك الحاجز بينى وبينها دوما .. إنها أحبت صديقى وأخى فمنزلتها عندى كزوجة أخى .. حتى لو كان أخى شديد الحمق وتركها .. ذكرتنا الباليرينا يومها بأفلام فاتن حمامة التى نحبها ولعبنا معا ذات اللعبة .. يطرح أحدنا فيلما من أفلامها ويسأل الآخر ما هو أجمل مشهد فى الفيلم ولا تلبث تلك الضحكة العالية أن تنفلت منه حين يسمع من الآخر نفس الإجابة التى يتوقعها .. فمن فيلم نهر الحب لفاتن حمامة وعمر الشريف اتفقنا على أن أجمل جملة هى عندما قالت فاتن : أنا عندى إبن هو كل حياتى ..
فرد عليها هو : وأنا عندى قلب إنتى كل حياته ..
وكان الطبيعى فى فيلم أيامنا الحلوة لنفس البطلة مع عبد الحليم حافظ وعمر الشريف أن يكون المشهد المفضل بين البطلة وأحد الأبطال الثلاثة ، لكننا اتفقنا بلا اتفاق على أن أجمل مشهد هو مشهد عمر الشريف عندما يذهب ليسرق العجوز الغنية التى كانت تمرضها فاتن حمامة واستيقظت العجوز وضبطته ..
انتقلنا للحديث عن باقى أحبتنا فتحدثنا عن ماجدة الرومى وفيروز .. سمعنا صوت فيروز آتيا من بعيد :
" ما أوسع الغابة وسع الغابة قلبي
يا مصور ع بالي ومصور بقلبي
نطرتك سنة وياطول السنه واسأل شجر الجوز
شوفك بالصحو جاي من الصحو وضايع بورق اللوز
ما أصغر الدمعة أنا دمعة بدربك
بدي أندر شمعة وتخليني حبك .. "
كنا مبهورين من جمال كلمة " وتخلينى أحبك " .. فهى تنذر الشموع لا ليحبها هو ولكن فقط ليسمح لها أن تحبه .. سيدى يا سيدى ..
وعندما كنا نلتقى مساء فى نادى الأدب بقصر الثقافة – فقد كانت شاعرة وخريجة كلية الآداب - كنا نتحدث طويلا .. طويلا جدا وحين تنصرف كنا نتحرج معا من أن أصحبها حيث تستقل سيارة العودة وكنت سعيدا بذلك الحرج الذى حفظ علاقتنا فى الإطار العام الصحيح فلم نفعل مرة واحدة أى تصرف ولو بسيط نخجل منه .. وفى طريق العودة إلى منازلنا كان كل منا دوما يمسك بخطاب من الآخر .. شبه مذكرات يومية يسلمها كل منا للآخر أسبوعيا ، فكنا نسابق الزمن لنصل ليفتح كل منا كنزه الثمين ويغرق فى القراءة .. كتبت لى :
( كيف لى بهذا العالم الشفيف ؟! .. للأسف ينتابنى شعور قوى أحيانا بأن أرضنا لا تصلح لسكنى هذه المعانى . فهى أرض كفيلة بقتل كل جميل .. وها نحن نرى القبح يعمر ويتفاقم والتلوث يمتد إلى كل شيء .. حتى أعماقنا وأرواحنا التى خلقها الله الرحيم آية فى الصفاء لم تسلم من التخريب .. أكثر ما أخشى عليه فى هذا العالم هو دينى وإيمانى .. رغم أنه والحمد لله فى زيادة مستمرة .. يقويه عطف ربى وحنانه الذى لا يغفل عنى ولا عن غيرى لحظة ..
لكننى بشر .. لم أخلص بعد تماما وأقف على قمة الأمور .. تنتابنى لحظات كراهية – أكرهها كثيرا – لكنها سرعان ما تزول وأستغفر الله وأدعو للجميع ولى قبلا بالهداية .. كلما كسرت لى أوهامى حلما جميلا كنت أتنازل .. على الأرض عن كثير منها .. صارت أحلامى فى مكانها الحق .. أحلم بالكثير فى السماء إن أراد الله لى الرحمة وتجاوز عن تلال ذنوبى ..
لكن الأرض صارت لى خراب .. سجن ... أيام تنقضى على أية حال .. والأمور فيها جميعا تتساوى .. باستثناء الإيمان والأمل فى الله .. فالقانط لا يرى الدنيا ولا ما بعدها .. أما الآمل الحكيم فإنه يؤجل أمانيه الطاهرة لمكانها اللائق .. ويكتفى من دنيانا بالكفاف .. صار الاستقرار لى غاية .. لا يهم كثيرا مع من .. لكننى تعبت كثيرا من الترحال والتهديد المستمر .. ).
( إيهاب .. حالا وصلت .. ولم أطق صبرا عن الحديث معك رغم ثرثرتى التى ربما أصابتك بالملل .. فيروز الآن تغنى : ما أوسع الغابة . . وسع الغابة قلبى .. أعتقد أنها يجب أن تقول لك أنت وسع الغابة قلبك .. لا تتخيل مدى السعادة التى أشعر بها وأنا أحظى بالكثير من وقتك وحدى .. تستمع إلى تفاهاتى باحترام يناسبك أكثر مما يناسب حديثى .. لا أعرف كيف أشكرك وعلام .. كل ما أعرفه أننى مدينة لك بالكثير وأننى لو قدر لى العيش كخادمة لمثلك .. فسيكون شرفا لا تستحقه مثلى .. رغم راحتى للأمانة التى تحدثت بها معك عنى إلا أننى تخوفت كثيرا أن أجرح مشاعرك وأخيب ظنك فى .. لا أخفيك سرا .. صديقك فعلها من قبل .. ( معتز ) قد أصابه الكثير من الضغط النفسى والإحباط بسبب أمانتى الشديدة معه .. فقد منحت له قلبى كما لم أفعل من قبل .. وحكيت له تفاصيل أمور كثيرة لم تحتملها رجولته وبشريته .. ولم ألمه فى ذلك .. بل ألقيت اللوم على نفسى لأننى أرهقته وحملته فوق طاقته .. كنت فخورة بصراحتى لكنها لم تفعل لى ولا له شيئا .. كنت أحب أن أعرف رأيك فى مثل هذه الأمور .. هل يمكن لاثنين أن يتطهرا .. كل بين يدى الآخر .. تماما كما يعترف القبطى للقسيس .. ويتوب بين يديه على ما اقترف ؟ .. هل يمكن أن يحدث ذلك دون أن تنكسر منطقة ما بينهما .. دون أن تفقد هى تحديدا جزءا من ثقته ومشاعره .. ترى هل كان العيب فى فكرتى .. أم فى قدرته على التحمل .. وهل يوجد من هو أكثر تحملا منه .. أم أننى أتبنى أوهاما لا أساس لها .. ما علينا .. أرهقتك بأمور لا ذنب لغيرى فيها ولكنك الطالب .. إنت حر بقى .. تردد الآن فيروز : بقطف لك بس ها المرة .. ها المرة بس شى زهرة .. شى زهرة حمرا وبس ..
وأقول لك أنا : بقطف لك بس ....... ها القلب ...
يا رب تكون مثلى الآن وأكون معك .. على أوراقك الرائعة التى تمنحنى الكثير وترتقى بى إلىّ .. فى أبرأ وأجمل حالاتى .. أشعر بصفاء غريب وبنفحة أمل وحلم رائعة .. وأرى الغد بعينى خيالى .. خاليا من الكثير من متاعبى ومليئا بالعديد من أحلامى ..
يقول نزار :
" قالت : حرام أن يكون لنا
على أراجيح الصبا .. بيت ؟!
يغسل البريق شباكه
وسقفه طرزه النبت
وفيه آلات الهوى كلها
الكوب والقربة والتخت
كمنزل العصفور ، أرضى به
فيه الطعام السمح .. والصمت
أقول فيه كل شيء ..
فلا بحتَ بما كان ، ولا بُحتُ
وبعدها .. لا بأس أن ننطفى كالعطر
لا حس .. ولا صوت " .. )
( الأربعاء .. الثالثة ظهرا .. هذه أول مرة أكتب إليك فى هذا الوقت .. حقا مفارقة عجيبة حدثت الآن وأردت أن تشاركنى الدهشة .. كنت أقرأ رواية شجرة اللبلاب لمحمد عبد الحليم عبد الله ، النسخة التى أخذتها منك .. كما قلت لك إننى قرأتها عدة مرات منذ أعوام وكنت أنتظر عبر الصفحات جملة محددة لطالما أعجبتنى حين قرأتها أول مرة ، من زينب بطلة الرواية وقد وضعت فى الرواية القديمة خطا تحت هذه الجملة بالقلم الرصاص ، واشتد عجبى وأنا أقرأ نسختك فحين وصلت إليها وجدت تحتها مثل الخط الذى وضعته أنا منذ سنوات .. ما أشد فرحتى لو كنت أنت الذى وضعته .. الجملة تقول : " الحب رق وعبودية اختيارية .. وأشد العبيد طاعة لمولاه هو أجدرهم بأن يسمى حبيبا " .. أنت فعلا مدهش .. جريت من فرحتى إلى الحجرة التى بها الأوراق لأسجل لك ذلك .. أرجو الله أن يكون ذلنا خاضعا لرضاه وفى رحابه .. وأن تسعد دوما .. ) .